أشهر كتب (سيد قطب) ومن أكثرها جدلًا، وقد كان هذا الكتاب سببًا رئيسيًّا في إعدامه. يتحدث فيه الكاتب عن الجيل القرآني الفريد وطبيعة المنهج القرآني، ونشأة المجتمع المسلم، والجهاد في سبيل الله، وجنسية المسلم وعقيدته باعتبارها معالم مهمة في طريق الأمة الإسلامية للتمكين و قيادة العالم. ويعتبر (سيد قطب ) أن العالم اليوم يعيش في جاهلية رغم التقدم التكنولوجي الهائل؛ وذلك لعدة أسباب سوف يبينها بين سطور الكتاب.
تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها -فهذا عَرَضٌ للمرض وليس هو المرض -ولكن بسـبب فقدانها للقِيَم، التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نموًّا سليمًا. وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من القِيَم، بل الذي لم يعد لديه ما يُقنِع ذاته به بأنه يستحق أن يوجد أو أن يعيش، بعدما انتهت الديمقراطية فيه، وبدأت تستعير وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقي -وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية -تحت اسم الاشتراكية.
إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال؛ فالنظام الغربي قد انتهى دوره؛ حيث لم يعد يملك رصيدًا من القِيَم يسمح له بالقيادة. لابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية، عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي، وتزوِّد البشرية بقِيَم جديدة كاملة وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته. والإسلام وحده هو الذي يملك تلك القِيَم وهذا المنهج.
والإسلام لا يملك أن يؤدّي دوره إلا أن يتمثَّل في مجتمع، أي أن يتمثل في (أُمَّة)؛ فالبشرية لا تستمع إلى عقيدة مجردة لا ترى مصداقها الواقعي في الحياة. ووجود الأُمَّة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة؛ فالأُمَّة المسلمة ليست أرضًا كان يعـيش فيها الإسـلام، وليست قومًا كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي، إنما الأُمَّة المسلمة: جماعة من البشر تخرج حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقِيَمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي، وهذه الأُمَّة بهذه المواصفات قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض.
ولا بد من إعادة وجود هذه الأُمَّة؛ لكي يؤدي الإسلام دوره الأساسي في قيادة البشرية مرة أخرى. والمسافة بين محاولة البعث والإحياء وبين تسلُّم قيادة البشر مسافة شاسعة؛ فقد غابت الأُمَّة المسلمة عن الوجود دهرًا طويلًا، وقد تولّت قيادة البشرية أفكارٌ أخرى وأممٌ أخرى وأوضاعٌ أخرى فترة طويلة، وقد أبدعت العبقرية الأوروبية في هذه الفترة رصيدًا ضخمًا من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي. وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمّته ولا تفرِّط فيه ولا فيمن يمثّله بسهولة، وخاصة أن ما يسمى (العالم الإسلامي) يكاد يكون عاطلًا من كل هذه الزينة، ولكن لا بد من البعث الإسلامي مهما كانت المسافة شاسعة بين محاولة البعث وبين تسلُّم قيادة البشرية؛ فمحاولة البعث الإسلامي هي الخطوة الأولى التي لا يمكن أن نسير في الطريق بدونها.
إنَّ العالم كله يعيش اليوم في جاهلية من ناحية الأصل الذي تخرج منه مقوِّمات الحياة وأنظمتـها، جاهلية لا تخفف منها شيئًا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الكبير.
هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي (الحاكمية). إنها تسند (الحاكمية ) إلى البشر؛ فتجعل بعضهم لبعض أربابًا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادّعاء حق وضْع التصورات والقِيَم والشرائع والقوانين، بدون منهج الله للحياة؛ فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله والاعتداء على عباده. وما مهانة الإنسان عامة في الأنظمة الجماعية، وما ظلم الأفراد والشعوب والاستعمار في النُّظُم الرأسمالية، إلا أثرٌ من آثار الاعتداء على سلطان الله، وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان.
وفي هذا يتفرَّد المنهج الإسلامي؛ فالناس في كل نظام -غير النظام الإسلامي -يعبد بعضهم بعضًا. وفي المنهج الإسلامي وحده يتحرر الناس جميعًا من عبادة بعضهم لبعض بعبادة الله وحده، وتلقّي الأوامر من الله وحده، والخضوع لله وحده. وهذا هو مفترق الطرق، وهذا هو التصوُّر الجديد الذي نملك إعطاءه للبشرية؛ لأنه ليس من منتَجات الحضـارة الغربية ولا العبقرية الأوروبية.
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهَدْيه العملي وسيرته الكريمة كلها بين أيدينا كذلك، كما كانت بين أيدي ذلك الجبل الأول الذي لم يتكرر في التاريخ، ولم يَغِبْ إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر؟ لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمراتها، ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة إلى آخر الزمان، ولكن الله سبحانه علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويمكن أن تؤتي ثمارها؛ فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة، وأبقى هذا الدِّين من بعده إلى آخر الزمان. إذن فإن غياب شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفسِّر فشلنا الآن ولا يمكن أن يكون هو السبب فيه.
لقد كان القرآن وحده هو المصدر الذي يَسْتلهمون منه، ولم يكن ذلك بسبب أن البشرية لم يكن لديها يومها حضارة ولا ثقافة ولا علم ولا دراسات، بل كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها، الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، وكانت هناك مُخَلَّفات الحضارة الإغريقية ومَنْطقها وفلسفتها وفنّها، وكانت هناك حضارة الفُرْس وفنّها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونُظُم حكمها كذلك، وحضارة (الهند) وحضارة (الصين)، وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحيطان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة. فلم يكن إذن فَقْرٌ في الحضارات والثقافات العالمية هو ما يجعلهم يستعينون بكتاب الله وحده في فترة تكوّنه، وإنما كان ذلك عن تصميم مرسوم ونهْجٍ مقصود، وما من شك أن اختلاط النَّبْع الأول كان عاملًا أساسيًّا من عوامل ذلك الاختلاف الواضح بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل أساسي آخر هو: اختلاف منهج التلقِّي؛ فلم يكونوا يقرأون القرآن بقَصْد الثقافة والاطّلاع، ولا بقصد التّذوُّق والمتاع. لم يكن أحدهم يتلقَّي القرآن ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولًا يملأ به جُعْبَتَه، إنما كان يتلقَّي القرآن ليتلقَّي أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها. يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه؛ ومن ثَمَّ لم يكن أحدهم لِيَسْتَكْثِر منه في الجلسة الواحدة؛ لأنه كان يحسّ أنه إنما يَسْتَكْثِر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتِقِه؛ فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها؛ فكان منهجهم هو (التلقِّي للتنفيذ).
ربما قِيل أنه كان في استطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق الأمين، الذي حكَّمه أشراف قريش قبل ذلك في وضْـع الحجر الأسود وارتضوا حُكْمه -أن يجعلها قوميّة عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتْها الحروب ومزّقتْها النزاعات، ويوجهها وجْهة قومية لاستخلاص أرضها المغتَصَبة من الإمبراطوريات المستعمِرة؛ فلو دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -هذه الدعوة لاستجاب العرب كلهم له، بدلًا من أن يعاني ثلاثة عشر عامًا في معارضة أهواء أصحاب السلطان في الجزيرة، وبعد ذلك يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بُعِث بها في تعبيد الناس لسُلطان ربهم، بعد أن عبَّدهم لسُلطانه البشريّ.
ولكن الله -سبحانه وهو العليم الحكيم -لم يوجِّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه؛ لأنه ليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو فارسي إلى طاغوت عربي؛ فالطاغوت كله طاغوت. والناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيدًا لله وحده إلا عندما ترتفع راية (لا إله إلا الله)، كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا الله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد؛ لأن السلطان كله لله، ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وربما قِيل أنه كان في استطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم -أن يرفعها راية اجتماعية، وأن يثيرها حربًا على طبقة الأشراف، وأن يجعلها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، وردّ أموال الأغنياء إلى الفقراء، وبعد ذلك يدعوهم إلى التوحيد، ولكن الله بِحِكمته يعلم أن هذا ليس هو الطريق الصحيح، وأن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنشأ في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يردّ الأمر كله لله، ويقبل عن رضًي وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة التوزيع.
إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية؛ فتجعلهم يتعجّلون خطوات المنهج الإسلامي، هي كذلك تتعمّد أحيانًا أن تحرجهم سائلة: أين تفصيلات نظامكم الذي تدْعُون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن دراسات ومِن فِقْه مبنيّ على الأصول الحديثة؟ كأن الذي ينقص الناس في هذا الزمان لإقامة شريعة الإسلام في الأرض هو مجرد الأحكام الفقهية والبحوث الفقهية الإسلامية، وكأنما هم مستسلِمون لحاكمية الله، راضون بأن تحكمهم شريعته، ولكنهم فقط لا يجدون من المجتهدين فقهًا مُقَنَّنًا بالطريقة الحديثة. وهي سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كل ذي قلب يحسّ لهذا الدين بِحُرمة.
إن الجاهلية لا تريد بهذا الإحراج إلا أن تجد لنفسها علّة في رفض شريعة الله، واستبقاء عبوديـة البشر للبشر، وأن تُحوِّل منهج أصحاب الدعوة الإسلامية عن طبيعته التي تَتَبَلْوَر فيها النظرية من خلال الحركة. ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا لهذه المناورة، من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم.
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج، وأن يتنزهوا عنها، وأن يرفضوا السُّخرية الهازلة في ما يسمَّي تطوير الفِقْه الإسلامي في مجتمع لا يُعْلِن خضوعه لشريعة الله ورَفْضه لكل شريعة سواها. من واجبهم أن يرفضوا هذا الإلهاء عن العمل الجادّ، وأن يرفضـوا هذه الخدعة الخبيثة. ومن واجبهم أن يتحركوا وفق منهج هذا الدين في الحركة؛ فهذا من أسرار قوّته وهذا هو مصدر قوّتهم كذلك. إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ولا انفصام بينهما، وأي منهج آخر غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية؛ فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة، وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية.
السِّمة الأولى: هي الواقعية الجِدِّية في منهج هذا الدين؛ فهو حركة تواجه واقعًا بشريًا، وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصوُّرية، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تدعمها سلطات ذات قوة مادية، ومن ثمَّ تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تَحُول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات، وتُخْضعهم بالقهر والتضليل وتعبِّدهم لغير ربهم الجليل. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.
والسِّمة الثانية: هي الواقعية الحركية؛ فهي حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تُسَلِّم إلى المرحلة التي تليها؛ فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجرَّدة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمِّدة. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مرّ بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذين يصنعون هذا، يخلطون خلطًا شديدًا ويلبسون منهج هذا الدين بشكل مضلل، ويحمِّلون النصوص ما لا تحمله، ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصًّا نهائيًا، يمثِّل القواعد النهائية في هذا الدين.
ويقولون أن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يُسْدون إلى هذا الدِّين جميلًا بِتَخَلِّيه عن منهجه: وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعًا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، لا بِقَهْرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتّخْلِية بينهم وبين هذه العقيدة، بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قَهْرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها، وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.
والسِّمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدّائبة والوسائل المتجددة لا تُخرِج هذا الدين عن قواعده المحدَّدة ولا عن أهدافه المرسومة؛ فهو منذ اليوم الأول وهـو يخاطب العشيرة الأقربين أو يخاطب قريشًا، أو يخاطب العرب أجمعين أو يخاطب العالمين، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد، لا مُساوَمة في هذه القاعدة ولا لِين، ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد فـي خطة مرسومة ذات مراحل محدّدة.
والسِّمة الرابعة: هي ذلك الضّبْط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى، وقيام ذلك الضّبْط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن ترجع إليه، أو أن تُسَالِمه؛ فلا تقف لدَعْوته بأي جدار من نظام سياسي أو قوة مادية، وأن تخلِّي بينه وبين كل فرد يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه؛ فإن قاوَمَه أحد، كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه.
إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا أنه هو كل مجتمـع لا يُخلِص عُبُودِيَّته لله وحده، متمثِّلة هذه العُبُودِيَّة في التصوُّر الاعتقادي، وفي الشعائر التعبُّدِيّة، وفي الشرائع القانونية. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض في إطار المجتمع الجاهلي فعلًا!
تدخل فيه المجتمعات الشيوعية، أولًا: بإلحادها في الله وبإنكار وجـوده أصلًا، وإرجاع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى الاقتصاد أو أدوات الإنتاج، ثانيًا: بإقامة نظام العبودية فيه للحزب -على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة! -لا لله -سبحانه -، ثم ما يترتب على ذلك التصور من إهدار لخصائص الإنسان؛ باعتبار أن المطالب الأساسية له هي فقط مطالب الحيوان، وهي الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس، وحرمانه من حاجات روحه الإنساني المتميز وهي: العقيدة في الله، وحرية اختيارها، وحرية التعبير عنها، وكذلك حرية التعبير عن فردِيّته.
وتدخل فيه المجتمعات الوَثَنِيّة وهي ما تزال قائمة في (الهند) و (اليابان) و (الفلبين) و (أفريقيا). تدخل فيه أولًا: بتصورها الاعتقادي القائم على تأْلِيه غير الله، وتدخل فيه ثانيًا: بتقديم الشعائر التَّعَبُّدِيّة لشتَّي الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها. كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع يكون الـمَرْجع فيها لغير الله وشريعته، سواء استمدَّتْ هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسَّحَرة والشيوخ، أو استمدتها من هيئات مَدَنِيّة علمانية تملك سُلطة التّشريع دون الرجوع إلى شريعة الله، أي أن لها (الحاكمية) العليا باسم (الشعب) أو باسم (الحزب) أو باسم كائن من كان.
وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعًا. أولًا: بتصورها الاعتقادي المحرَّف، الذي لا يُفْرد الله بالألوهية، بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك، سواء بالبنوة أو بالتَّثليث، أو بتصوُّر الله -سبحانه -على غير حقيقته، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها؛ "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَي الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّي يُؤْفَكُونَ "، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "، وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها القادمة من التصورات الاعتقادية المنحرفة الضالة، ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده، بالإقرار له وحده بحق (الحاكمية)، واستمداد السلطان من شرعه، بل تُقِيم هيئات من البشر لها حق (الحاكمية) العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه.
وقديمًا وَصَمَهم الله بالشِّرْك؛ لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان، يُشَرِّعون لهم من عند أنفسهم؛ فيقبلون منهم ما يشرعونه: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ "، وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان، ولم يكونوا يتقدَّمون لهم بالشعائر التعبدية، إنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق (الحاكمية)؛ فيقبلون منهم ما يُشَرِّعونه لهم بما لم يأذن به الله، كما جاء في الحديث النبوي أنهم "أحلُّوا لهم الحرام فاتبعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فاتبعوهم؛ فتلك عبادتهم إياهم".
وأخيـرًا يدخل فـي إطار المجتمـع الجاهلـي تلك المجتمعات التـي تَزْعُم لنفسها أنها مسلمة. وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدِّم الشعائر التّعبّديّة لغير الله؛ ولكن لأنها لا تَدِين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها؛ فهي تُعطِي أخصّ خصائص الألوهية لغير الله؛ فتَدِين بحاكميّة غير الله، وتتلقَّي من هذه (الحاكمية) نظامها وشرائعها وقِيَمها، وموازينها وعاداتها وتقاليدها وكل مقومات حياتها، والله – سبحانه - يقول عن الحاكمين: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ "، ويقول عن المحكومين: "أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ " إلى أن يقول: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ".
كما أنه -سبحانه -قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشِّرك والكفر، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دونه، لمجرّد أن جعلوا للأحبار والرهبان حق التشريع؛ فهذه كتلك، خروج من دين الله ومن شهادة ألا إله إلا الله. وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة علمانيته وعدم علاقته بالدين أصلًا، وبعضها يعلن أنه يحترم الدين، ولكنه يُخْرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلًا، ويقول أنه ينكر الغَيْبِيّة ويُقِيم نظامه على العِلْمية؛ باعتبار أن العِلْمية تناقض الغَيْبِيّة! وبعضها يجعل (الحاكمية) الفِعْلية لغير الله ويشَرِّع ما يشاء، ثم يقول عما يشَرِّعه من عند نفسه أن هذه شريعة الله! وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده.
وإذا تعيَّن هذا؛ فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدّد في عبارة واحدة: (إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره.) إن الإسلام لا ينظـر إلى العناوين واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافها. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة، وهي أن الحياة فيها لا تقـوم على العبودية الكاملة لله وحده؛ وهي مـن ثمّ تلتقي مع سائر المجتمعات الأخرى فـي صفة واحدة: صفة الجاهلية.
نخاطب الناس ونحن نقدِّم لهم الإسلام في ثقة وقوة، وفي عطف ورحمة. ثقة الذي يسْتَيْقن أن ما معه هو الحق، وأن ما عليه الناس هو الباطل، وعطفُ الذي يرى شقاء البشر، ويعرف كيف يُسْعدهم، ورحمة الذي يرى ضلال الناس ويعرف أين الهُدَي الذي ليس بعده هُدَي!
لن نحقنهم بالإسلام وهم مخدرون، ولن نَرْبتَ على شهواتهم وتصوّراتهم المنحرفة. سنكـون صرحاء معهم غاية الصراحة: "هـذه الجاهلية التي أنتم فيها نَجَس، والله يريد أن يطهّركم. هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله يريد أن يطيِّبكم، والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقِيَمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها، ونحن قد رأينا هذه الحياة مُمَثَّلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه". هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدِّم لهم الإسلام؛ لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة.
نَظَر إليهم مِن عَلٍ؛ لأن هذه هي الحقيقة، ولم يقل لهم أبدًا أنه لن يمسّ حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقِيَمهم إلا بتعديلات طفيفة! أو أنه يُشْبه نُظُمهم وأوضاعهم التي أَلِفوها، كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام، مرة تحت عنوان (ديمقراطية الإسلام) ومرة تحت عنوان (اشتراكية الإسلام)، إلى آخر هذا التداخل الناعم والتَّرْبيت على الشهوات.
إن الحياة وسائر ما يُلابِسُها من لذائذ وآلام ومن متاع وحرمان، ليست هي القِيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السِّلعة التي تقرِّر حساب الربح والخسارة. والنصر ليس مقصورًا على الغَلَبة الظاهرة؛ فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة؛ فالقِيمة الكبرى في ميزان الله هي قِيمة العقيدة، والسِّلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان. وإن النصر في أرفع صُوَرِه هو انتصار الروح على المادة، وانتصار الإيمان على الفتنة؛ ففي قصة (أصحاب الأخدود) انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة، وانتصرت على الفتنة انتصارًا يشرِّف الجنس البشري كله في جميع الأعصار، وهذا هو الانتصار.
إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعًا لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في الملأ الأعلى وفي دنيا الناس أيضًا. لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد؟
النظرة الأولى هي النظرة قصيرة المدى، التي تهم الإنسان العجول، والنظرة الثانية الشاملة بعيدة المدى، هي التي يروِّض القرآن المؤمنين عليها؛ لأنها تمثِّل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح، وهكذا اتّصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تَعُد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر والإيمان والطغيان، ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ولا موعد الفصل في هذا الصراع.
اقرأ المزيد من الملخصات علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان